ما الذي يمكن أن يفعله مريض بالسرطان في أيامه الأخيرة سوي كتابة مذكراته ؟ لقد فكرت كثيرا قبل الإقدام علي هذة الخطوة ولكنني لم أجد ما هو أفضل , لقد كنت دوما علي قناعة بأن لكل إنسان في هذة الحياة أهمية حتي وإن بدا عاجزا أو تافها , ولكنه بالتأكيد لم يخلق عبثا , فقط يتراوح الأمر بين من يصنع دورا وتغييرا حقيقيا بنفسه , وبين من تضعه الحياه مكملا لأدوار الأخرين ومساعدا لهم دون أن يحقق لنفسه أي شيء , المهم أننا جميعا موجودون نؤثر ونتأثر بمن حولنا كما يقول علماء الإجتماع , وحيث أنني إنسانا عمر علي هذة الأرض مدة تزيد قليلاعلي الثمانين عاما , فأجرؤ علي القول أنني أثرت وتأثرت وغيرت وتغيرت , وأحمل في رأسي الكثير الذي أحب أن أعتقد أنه سيفقد بوفاتي .
إن أيامي الأخيرة قد أصابها الملل , لن أقول لك الخوف فالموت قد أصبح مدرجا ضمن جدول أعمالي اليومية منذ بلغت الستين وحتي قبل أن أصاب بالمرض اللعين , أتوقعه فأتلو الشهادتين يوميا قبل أن أنام , فإن أسعدني الحظ وإستيقظت من نومي , فهذا يوم جديد أحياه وأستمتع به دون إفراط ولا تفريط , فأذهب إلي النادي إن إستطعت وأقابل من تبقي من أصدقائي الذين أوشكوا علي النفاذ , نتذكر أيامنا السعيدة ونشكو أحوال الشيخوخة وأمراضها ونترحم علي جيلنا الذي كان يقبل يد الوالدين صباحا ومساءا ونتعجب من احوال هذا الجيل الذي هو بطبيعة الحال لا يضاهينا جدية وعملا وأدبا وذكاءا وكأن العالم سينهار برحيلنا وتختفي منه الفضيلة , علي كل حال هذا هو حديث العجائز المفضل إذا ما إبتعد الحوار عن السياسة والنساء , أما إن بقيت في بيتي فهو يوم آخر سيقضي بين الجرائد والكمبيوتر والكتب والتليفزيون .
وقد تغير هذا الحال في بداية العام الماضي بعد اكتشافي للمرض بالمصادفة بعد نوبات من الإعياء والقيء , ظننت أن عويناتي تحتاج إلي التغيير فإذا به سرطان الكبد , فأصبحت أقضي معظم وقتي في سريرالمنزل أو المستشفي , وقد تعايشت مع المرض قدر المستطاع بعقلية رجل بلغ الثمانين من عمره فلم يعد يدهشه أو يخيفه شيئا , فكان لحالتي النفسية أثرا كبيرا إذ تحملت هذا المرض قرابة العامين في الوقت الذي توقع فيه أكثر أطبائي تفاؤلا ألا أكمل الستة أشهر , ولكنني أعلم علي أي حال أنني قد حصلت علي تأجيل ولكن الحكم نافذ لا محالة , وقد خلصت إلي حقيقة هامة مؤخرا تؤيد ظني وإيماني العميق بمقولة "رب ضارة نافعة" , فإن كان للمرض الذي ألم بي نفع فهو أنه قد أعطاني إشارة حمراء تقول لي في وضوح إن ساعتك قد اقتربت , تماما كمن يعلم بسفره مبكرا فيحسن الإستعداد له فلا يفاجيء في اللحظة الأخيرة أنه قد نسي ماكينة الحلاقة أو منامته الأثيرة , فقد تمنيت دائما من الله ألا يباغتني الموت في ساعة معصية أو قبل إنجاز الفروض الدينية والدنيوية , ويبدو أن الله قد استجاب دعائي فإن قبضت روحي الآن فسأموت وأنا أعلم جيدا أنني قد منحت المهلة الكافية لتسوية أموري قبل الرحيل , ولكن من قال أن النفس البشرية قنوعة ؟ فمازلت أطمع في بعض الوقت الذي يكفي لإنهاء ما سوف أبدأه وأتم به حياتي إن شاء الله .
ولكننا لم نتعرف بعد , ألم تلحظ ذلك ؟ حسنا , لندع السطور تحكي لك عني , فالسطور هي خير واش , ومن وراءها ستستنبط من أكون حقا , وتعرفني حق المعرفة , ولهذا السبب أدعو الله أن أكون أمينا مع نفسي ومعك بقدر ما تسمح به إنسانيتي , ففي نهاية الأمر ما كتبت هذة السطور تمجيدا أو تخليدا لذاتي لا سمح الله , بل لأنير الطريق لمن يرغب , لذا فإخفاء الحقائق وتزييفها لن يجدي نفعا , بل سيضلل قارئها ويبتعد به عن سواء السبيل , وعلي أي حال لاتخشي كذبا من شيخ فان مثلي قد أصبح أقرب إلي الدار الآخره منه إلي الحياة الدنيا , فتجلت الحقائق أمامه وسقطت الأقنعة عن زيف الحياة الذي يراوغ من يظن أن حياته ستمتد بلا نهاية فيعيش غافلا ناسيا .
أعتقد أن هذة المقدمة كافيه فلا داعي للمزيد من الإطالة , فأنا أعلم أنني بصدد قراء يعيشون في عصر لايعرف الاستطراد والاسهاب والمرادفات والمحسنات , أدوات الأدب العتيدة التي ما كان المرء ليجرؤ علي تسمية نفسه أديبا دونها , أما اليوم فإن البساطة والإختصار والدخول إلي قلب المواضيع هو السمة السائدة – أعتقد أن هذا هو إسترسال بدوره - ولكن أرجو المعذرة ! فأنا لست من هذا العصر , أنا فقط شيخ متسلل صعد إلي المسرح ليعزف لحنا قديما والناس نيام محاولا جذب الأنظار إليه في نهاية العرض بعدما صفق الجمهور ورقص طربا مع مطربة شابة جميلة تظهر من جسدها أكثر مما تخفي ومطرب شاب يرتدي سروالا ذو وسط منخفض ويرقص أفضل من المطربة , أعتقد أنها مهمة مستحيلة , ولكن من قال أن المهام السهلة تروقني ؟ فلتكونن تلك هي أخر مغامراتي الأرضية قبل أن أذهب إلي العالم الآخر , أن أجعلكم تهتمون بما أقول وتنصتون إليه بل وتحبونه , فتري هل أنجح؟ [/right]